فصل: من فوائد ابن تيمية في السورة الكريمة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من فوائد ابن تيمية في السورة الكريمة:

قال رحمه الله:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، الْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ.
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ- قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ وَنَوَّرَ ضَرِيحَهُ:
.................................

.فَصْل: أَسْمَاءُ الْقُرْآنِ:

الْقُرْآنُ الْفُرْقَانُ الْكِتَابُ الْهُدَى النُّورُ الشِّفَاءُ الْبَيَانُ الْمَوْعِظَةُ الرَّحْمَةُ بَصَائِرُ الْبَلَاغُ الْكَرِيمُ الْمَجِيدُ الْعَزِيزُ الْمُبَارَكُ التَّنْزِيلُ الْمُنَزَّلُ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ حَبْلُ اللَّهِ الذِّكْرُ الذِّكْرَى تَذْكِرَة: {وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَة لِلْمُتَّقِينَ} {إنَّهُ تَذْكِرَة} {فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ} {مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} و: {تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} الْمُهَيْمِنُ عَلَيْهِ: {وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ} {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} الْمُتَشَابِهُ الْمَثَانِي الْحَكِيمُ: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} مُحْكَم الْمُفَصَّلُ: {وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا} الْبُرْهَانُ: {قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَان مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا} عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ الْحَقُّ: {قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ} عَرَبِيّ مُبِين أَحْسَنَ الْحَدِيثِ أَحْسَنَ الْقَصَصِ عَلَى قَوْلٍ كَلَامُ اللَّهِ: {فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} الْعِلْمُ: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} الْعَلِيُّ الْحَكِيمُ: {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيّ حَكِيم} الْقَيِّمُ: {يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً} {فِيهَا كُتُب قَيِّمَة} {أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا} {قِيَمًا} وَحَيّ فِي قَوْلِهِ: {إنْ هُوَ إلَّا وَحْي يُوحَى} حِكْمَة فِي قَوْلِهِ: {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَر} {حِكْمَة بَالِغَة} وَحُكْمًا فِي قَوْلِهِ: {أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا} وَنَبَأ عَلَى قَوْلٍ فِي قَوْلِهِ: {عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ} وَنَذِير عَلَى قَوْلٍ: {هَذَا نَذِير مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى} فِي حَدِيثِ أَبِي مُوسَى شَافِعًا مُشَفَّعًا وَشَاهِدًا مُصَدِّقًا وَسَمَّاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «حُجَّة لَك أَوْ عَلَيْك» وَفِي حَدِيثِ الْحَارِثِ عَنْ عَلِيٍّ: {عِصْمَة لِمَنْ اسْتَمْسَكَ بِهِ}. وَأَمَّا وَصْفُهُ بِأَنَّهُ يَقُصُّ وَيَنْطِقُ وَيَحْكُمُ وَيُفْتِي وَيُبَشِّرُ وَيَهْدِي فَقَالَ: {إنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ} {هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ} {قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ} أَيْ يُفْتِيكُمْ أَيْضًا: {إنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ}.

.فَصْل: فِي الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى اتِّبَاعِ الْقُرْآنِ:

قَوْلُهُ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} فَإِنَّهُ فِي التَّفْسِيرِ الْمَرْفُوعِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كِتَابَ اللَّهِ.
وَسُئِلَ رَحِمَهُ اللَّهُ: عَنْ أَحَادِيثَ هَلْ هِيَ صَحِيحَة وَهَلْ رَوَاهَا أَحَد مِنْ الْمُعْتَبَرِينَ بِإِسْنَادِ صَحِيحٍ؟ إلَخْ فَقَالَ.

.فَصْل: حَدِيثُ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ:

وَأَمَّا حَدِيثُ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ: النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: قَسَمْت الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ نِصْفُهَا لِي وَنِصْفُهَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} قَالَ اللَّهُ: حَمِدَنِي عَبْدِي وَإِذَا قَالَ: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} قَالَ اللَّهُ: أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي وَإِذَا قَالَ: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} قَالَ اللَّهُ: مَجَّدَنِي عَبْدِي. وَإِذَا قَالَ: {إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} قَالَ: هَذِهِ الْآيَةُ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ فَإِذَا قَالَ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} قَالَ: هَؤُلَاءِ لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ».
وَثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ: ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: بَيْنَمَا جِبْرِيلُ قَاعِد عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعَ نَقِيضًا مِنْ فَوْقِهِ فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ: «هَذَا بَاب مِنْ السَّمَاءِ فُتِحَ الْيَوْمَ وَلَمْ يُفْتَحْ قَطُّ إلَّا الْيَوْمَ فَنَزَلَ مِنْهُ مَلَك فَقَالَ: هَذَا مَلَك نَزَلَ إلَى الْأَرْضِ وَلَمْ يَنْزِلْ قَطُّ إلَّا الْيَوْمَ فَسَلَّمَ وَقَالَ: أَبْشِرْ بنورين أُوتِيتهمَا لَمْ يُؤْتَهُمَا نَبِيّ قَبْلَك: فَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَخَوَاتِيمِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ لَنْ تَقْرَأَ بِحَرْفِ مِنْهَا إلَّا أُعْطِيته» وَفِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ: «إنَّ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ أُعْطِيَهَا مِنْ كَنْزٍ تَحْتَ الْعَرْشِ».

.فَصْل: فِي أُمِّ الْقُرْآنِ وَالسَّبْعِ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنِ الْعَظِيمِ:

قال اللّه تعالى: فِي أُمِّ الْقُرْآنِ وَالسَّبْعِ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنِ الْعَظِيمِ: {إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} وَهَذِهِ السُّورَةُ هِيَ أُمُّ الْقُرْآنِ وَهِيَ فَاتِحَةُ الْكِتَابِ وَهِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ وَهِيَ الشَّافِيَةُ وَهِيَ الْوَاجِبَةُ فِي الصَّلَوَاتِ لَا صَلَاةَ إلَّا بِهَا وَهِيَ الْكَافِيَةُ تَكْفِي مِنْ غَيْرِهَا وَلَا يَكْفِي غَيْرُهَا عَنْهَا. وَالصَّلَاةُ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ وَهِيَ مُؤَلَّفَة مِنْ كَلِمٍ طَيِّبٍ وَعَمَلٍ صَالِحٍ؛ أَفْضَلُ كَلِمِهَا الطَّيِّبِ وَأَوْجَبُهُ الْقُرْآنُ وَأَفْضَلُ عَمَلِهَا الصَّالِحِ وَأَوْجَبُهُ السُّجُودُ كَمَا جَمَعَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ فِي أَوَّلِ سُورَةٍ أَنْزَلَهَا عَلَى رَسُولِهِ حَيْثُ افْتَتَحَهَا بِقوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} وَخَتَمَهَا بِقَوْلِهِ: {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} فَوُضِعَتْ الصَّلَاةُ عَلَى ذَلِكَ أَوَّلُهَا الْقِرَاءَةُ وَآخِرُهَا السُّجُودُ. وَلِهَذَا قَالَ سُبْحَانَهُ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ: {فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ} وَالْمُرَادُ بِالسُّجُودِ الرَّكْعَةُ الَّتِي يَفْعَلُونَهَا وَحْدَهُمْ بَعْدَ مُفَارَقَتِهِمْ لِلْإِمَامِ وَمَا قَبْلَ الْقِرَاءَةِ مِنْ تَكْبِيرٍ وَاسْتِفْتَاحٍ وَاسْتِعَاذَةٍ هِيَ تَحْرِيم لِلصَّلَاةِ وَمُقَدِّمَة لِمَا بَعْدَهُ أَوَّلُ مَا يَبْتَدِئُ بِهِ كالتقدمة وَمَا يُفْعَلُ بَعْدَ السُّجُودِ مِنْ قُعُودٍ وَتَشَهُّدٍ فِيهِ التَّحِيَّةُ لِلَّهِ وَالسَّلَامُ عَلَى عِبَادِهِ الصَّالِحِينَ وَالدُّعَاءُ وَالسَّلَامُ عَلَى الْحَاضِرِينَ فَهُوَ تَحْلِيل لِلصَّلَاةِ ومعقبة لِمَا قَبْلَهُ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مِفْتَاحُ الصَّلَاةِ الطَّهُورُ وَتَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ». وَلِهَذَا لَمَّا تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ أَيُّمَا أَفْضَلُ كَثْرَةُ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ أَوْ طُولُ الْقِيَامِ أَوْ هُمَا سَوَاء؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ عَنْ أَحْمَد وَغَيْرِهِ: كَانَ الصَّحِيحُ أَنَّهُمَا سَوَاء الْقِيَامُ فِيهِ أَفْضَلُ الْأَذْكَارِ وَالسُّجُودُ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ فَاعْتَدَلَا؛ وَلِهَذَا كَانَتْ صَلَاةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُعْتَدِلَةً يَجْعَلُ الْأَرْكَانَ قَرِيبًا مِنْ السِّوَاءِ وَإِذَا أَطَالَ الْقِيَامَ طُولًا كَثِيرًا- كَمَا كَانَ يَفْعَلُ فِي قِيَامِ اللَّيْلِ وَصَلَاةِ الْكُسُوفِ- أَطَالَ مَعَهُ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ وَإِذَا اقْتَصَدَ فِيهِ اقْتَصَدَ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَأُمُّ الْكِتَابِ كَمَا أَنَّهَا الْقِرَاءَةُ الْوَاجِبَةُ فَهِيَ أَفْضَلُ سُورَةٍ فِي الْقُرْآنِ. قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: {لَمْ يَنْزِلْ فِي التَّوْرَاةِ وَلَا الْإِنْجِيلِ وَلَا الزَّبُورِ وَلَا الْقُرْآنِ مِثْلُهَا وَهِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ الَّذِي أُوتِيته} وَفَضَائِلُهَا كَثِيرَة جِدًّا. وَقَدْ جَاءَ مَأْثُورًا عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَه وَغَيْرُهُ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِائَةَ كِتَابٍ وَأَرْبَعَةَ كُتُبٍ جَمَعَ عِلْمَهَا فِي الْأَرْبَعَةِ وَجَمَعَ عِلْمَ الْأَرْبَعَةِ فِي الْقُرْآنِ وَجَمَعَ عِلْمَ الْقُرْآنِ فِي الْمُفَصَّلِ وَجَمَعَ عِلْمَ الْمُفَصَّلِ فِي أُمِّ الْقُرْآنِ وَجَمَعَ عِلْمَ أُمِّ الْقُرْآنِ فِي هَاتَيْنِ الْكَلِمَتَيْنِ الْجَامِعَتَيْنِ: {إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} وَإِنَّ عِلْمَ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ مِنْ السَّمَاءِ اجْتَمَعَ فِي هَاتَيْنِ الْكَلِمَتَيْنِ الْجَامِعَتَيْنِ. وَلِهَذَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ حَدِيثِ: «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: قَسَمْت الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ: نِصْفُهَا لِي وَنِصْفُهَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ. فَإِذَا قَالَ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} قَالَ اللَّهُ: حَمِدَنِي عَبْدِي وَإِذَا قَالَ: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} قَالَ اللَّهُ أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي وَإِذَا قَالَ: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: مَجَّدَنِي عَبْدِي- وَفِي رِوَايَةٍ: فَوَّضَ إلَيَّ عَبْدِي- وَإِذَا قَالَ: {إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} قَالَ: فَهَذِهِ الْآيَةُ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ فَإِذَا قَالَ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} قَالَ: فَهَؤُلَاءِ لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ».
فَقَدْ ثَبَتَ بِهَذَا النَّصِّ أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ مُنْقَسِمَة بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ عَبْدِهِ وَأَنَّ هَاتَيْنِ الْكَلِمَتَيْنِ مُقْتَسَمُ السُّورَةِ ف: {إيَّاكَ نَعْبُدُ} مَعَ مَا قَبْلَهُ لِلَّهِ: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} مَعَ مَا بَعْدَهُ لِلْعَبْدِ وَلَهُ مَا سَأَلَ. وَلِهَذَا قَالَ مَنْ قَالَ مِنْ السَّلَفِ: نِصْفُهَا ثَنَاء وَنِصْفُهَا مَسْأَلَة وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْعِبَادَةِ وَالاستعانة دُعَاء. وَإِذَا كَانَ اللَّهُ قَدْ فَرَضَ عَلَيْنَا أَنْ نُنَاجِيَهُ وَنَدْعُوَهُ بِهَاتَيْنِ الْكَلِمَتَيْنِ فِي كُلِّ صَلَاةٍ فَمَعْلُوم أَنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّهُ فَرْض عَلَيْنَا أَنْ نَعْبُدَهُ وَأَنْ نَسْتَعِينَهُ؛ إذْ إيجَابُ الْقَوْلِ الَّذِي هُوَ إقْرَار وَاعْتِرَاف وَدُعَاء وَسُؤَال هُوَ إيجَاب لِمَعْنَاهُ لَيْسَ إيجَابًا لِمُجَرَّدِ لَفْظٍ لَا مَعْنَى لَهُ فَإِنَّ هَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ؛ بَلْ إيجَابُ ذَلِكَ أَبْلَغُ مِنْ إيجَابِ مُجَرَّدِ الْعِبَادَةِ وَالاستعانة فَإِنَّ ذَلِكَ قَدْ يَحْصُلُ أَصْلُهُ بِمُجَرَّدِ الْقَلْبِ أَوْ الْقَلْبِ وَالْبَدَنِ بَلْ أَوْجَبَ دُعَاءَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَمُنَاجَاتَهُ وَتَكْلِيمَهُ وَمُخَاطَبَتَهُ بِذَلِكَ لِيَكُونَ الْوَاجِبُ مِنْ ذَلِكَ كَامِلًا صُورَةً وَمَعْنًى بِالْقَلْبِ وَبِسَائِرِ الْجَسَدِ. وَقَدْ جَمَعَ بَيْنَ هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ الْجَامِعَيْنِ إيجَابًا وَغَيْرَ إيجَابٍ فِي مَوَاضِعَ كَقَوْلِهِ فِي آخِرِ سُورَةِ هُودٍ: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} وَقَوْلِ الْعَبْدِ الصَّالِحِ شُعَيْبٍ: {وَمَا تَوْفِيقِي إلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} وَقَوْلِ إبْرَاهِيمَ وَاَلَّذِينَ مَعَهُ: {رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} وَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ إذْ أَمَرَ رَسُولَهُ أَنْ يَقُولَ: {كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَم لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ}. فَأَمَرَ نَبِيَّهُ بِأَنْ يَقُولَ: عَلَى الرَّحْمَنِ تَوَكَّلْت وَإِلَيْهِ مَتَابِ كَمَا أَمَرَهُ بِهِمَا فِي قَوْلِهِ: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} وَالْأَمْرُ لَهُ أَمْر لِأُمَّتِهِ وَأَمْرُهُ بِذَلِكَ فِي أُمِّ الْقُرْآنِ وَفِي غَيْرِهَا لِأُمَّتِهِ لِيَكُونَ فِعْلُهُمْ ذَلِكَ طَاعَةً لِلَّهِ وَامْتِثَالًا لِأَمْرِهِ وَلَا يَتَقَدَّمُوا بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ؛ وَلِهَذَا كَانَ عَامَّةُ مَا يَفْعَلُهُ نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْخَالِصُونَ مَنْ أُمَّتِهِ مِنْ الْأَدْعِيَةِ وَالْعِبَادَاتِ وَغَيْرِهَا إنَّمَا هُوَ بِأَمْرِ مِنْ اللَّهِ؛ بِخِلَافِ مَنْ يَفْعَلُ مَا لَمْ يُؤْمَرُ بِهِ وَإِنْ كَانَ حَسَنًا أَوْ عَفْوًا وَهَذَا أَحَدُ الْأَسْبَابِ الْمُوجِبَةِ لِفَضْلِهِ وَفَضْلِ أُمَّتِهِ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ وَفَضْلِ الْخَالِصِينَ مَنْ أُمَّتِهِ عَلَى الْمُشَوِّبِينَ الَّذِينَ شَابُوا مَا جَاءَ بِهِ بِغَيْرِهِ كَالْمُنْحَرِفِينَ عَنْ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ. وَإِلَى هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْصِدُ فِي عِبَادَاتِهِ وَأَذْكَارِهِ وَمُنَاجَاتِهِ مِثْلُ قَوْلِهِ فِي الْأُضْحِيَّةِ: «اللَّهُمَّ هَذَا مِنْك وَلَك» فَإِنَّ قَوْلَهُ: «مِنْك» هُوَ مَعْنَى التَّوَكُّلِ وَالاستعانة وَقَوْلَهُ: «لَك» هُوَ مَعْنَى الْعِبَادَةِ وَمِثْلُ قَوْلِهِ فِي قِيَامِهِ مِنْ اللَّيْلِ: «لَك أَسْلَمْت وَبِك آمَنْت وَعَلَيْك تَوَكَّلْت وَإِلَيْك أَنَبْت وَبِك خَاصَمْت وَإِلَيْك حَاكَمْت أَعُوذُ بِعِزَّتِك لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ أَنْ تُضِلَّنِي أَنْتَ الْحَيُّ الَّذِي لَا تَمُوتُ وَالْجِنُّ وَالْإِنْسُ يَمُوتُونَ» إلَى أَمْثَالِ ذَلِكَ.
إذَا تَقَرَّرَ هَذَا الْأَصْلُ فَالْإِنْسَانُ فِي هَذَيْنِ الْوَاجِبَيْنِ لَا يَخْلُو مِنْ أَحْوَالٍ أَرْبَعَةٍ هِيَ الْقِسْمَةُ الْمُمْكِنَةُ إمَّا أَنْ يَأْتِيَ بِهِمَا وَإِمَّا أَنْ يَأْتِيَ بِالْعِبَادَةِ فَقَطْ وَإِمَّا أَنْ يَأْتِيَ بِالاستعانة فَقَطْ وَإِمَّا أَنْ يَتْرُكَهُمَا جَمِيعًا. وَلِهَذَا كَانَ النَّاسُ فِي هَذِهِ الْأَقْسَامِ الْأَرْبَعَةِ؛ بَلْ أَهْلُ الدِّيَانَاتِ هُمْ أَهْلُ هَذِهِ الْأَقْسَامِ وَهُمْ الْمَقْصُودُونَ هُنَا بِالْكَلَامِ. قِسْم يَغْلِبُ عَلَيْهِ قَصْدُ التَّأَلُّهِ لِلَّهِ وَمُتَابَعَةُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْإِخْلَاصِ لِلَّهِ تَعَالَى وَاتِّبَاعُ الشَّرِيعَةِ فِي الْخُضُوعِ لِأَوَامِرِهِ وَزَوَاجِرِهِ وَكَلِمَاتِهِ الْكَوْنِيَّاتِ؛ لَكِنْ يَكُونُ مَنْقُوصًا مِنْ جَانِبِ الاستعانة وَالتَّوَكُّلِ فَيَكُونُ إمَّا عَاجِزًا وَإِمَّا مُفَرِّطًا وَهُوَ مَغْلُوب إمَّا مَعَ عَدُوِّهِ الْبَاطِنِ وَإِمَّا مَعَ عَدُوِّهِ الظَّاهِرِ وَرُبَّمَا يَكْثُرُ مِنْهُ الْجَزَعُ مِمَّا يُصِيبُهُ وَالْحُزْنُ لِمَا يَفُوتُهُ وَهَذَا حَالُ كَثِيرٍ مِمَّنْ يَعْرِفُ شَرِيعَةَ اللَّهِ وَأَمْرَهُ وَيَرَى أَنَّهُ مُتَّبِع لِلشَّرِيعَةِ وَلِلْعِبَادَةِ الشَّرْعِيَّةِ وَلَا يَعْرِفُ قَضَاءَهُ وَقَدَرَهُ وَهُوَ حَسَنُ الْقَصْدِ طَالِب لِلْحَقِّ لَكِنَّهُ غَيْرُ عَارِفٍ بِالسَّبِيلِ الْمُوَصِّلَةِ وَالطَّرِيقِ الْمُفْضِيَةِ. وَقِسْم يَغْلِبُ عَلَيْهِ قَصْدُ الاستعانة بِاَللَّهِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَإِظْهَارِ الْفَقْرِ وَالْفَاقَةِ بَيْنَ يَدَيْهِ وَالْخُضُوعِ لِقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ وَكَلِمَاتِهِ الْكَوْنِيَّاتِ؛ لَكِنْ يَكُونُ مَنْقُوصًا مِنْ جَانِبِ الْعِبَادَةِ وَإِخْلَاصِ الدِّينِ لِلَّهِ فَلَا يَكُونُ مَقْصُودُهُ أَنْ يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ وَإِنْ كَانَ مَقْصُودُهُ ذَلِكَ فَلَا يَكُونُ مُتَّبِعًا لِشَرِيعَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَمِنْهَاجِهِ؛ بَلْ قَصْدُهُ نَوْعُ سُلْطَانٍ فِي الْعَالَمِ إمَّا سُلْطَانُ قُدْرَةٍ وَتَأْثِيرٍ وَإِمَّا سُلْطَانُ كَشْفٍ وَإِخْبَارٍ أَوْ قَصْدُهُ طَلَبُ مَا يُرِيدُهُ وَدَفْعُ مَا يَكْرَهُهُ بِأَيِّ طَرِيقٍ كَانَ أَوْ مَقْصُودُهُ نَوْعُ عِبَادَةٍ وَتَأَلُّهٍ بِأَيِّ وَجْهٍ كَانَ هِمَّتُهُ فِي الاستعانة وَالتَّوَكُّلِ الْمُعِينَةُ لَهُ عَلَى مَقْصُودِهِ فَيَكُونُ إمَّا جَاهِلًا وَإِمَّا ظَالِمًا تَارِكًا لِبَعْضِ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ رَاكِبًا لِبَعْضِ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَهَذِهِ حَالُ كَثِيرٍ مِمَّنْ يَتَأَلَّهُ وَيَتَصَوَّفُ وَيَتَفَقَّرُ وَيَشْهَدُ قَدَرَ اللَّهِ وَقَضَاءَهُ وَلَا يَشْهَدُ أَمْرَ اللَّهِ وَنَهْيَهُ وَيَشْهَدُ قِيَامَ الْأَكْوَانِ بِاَللَّهِ وَفَقْرَهَا إلَيْهِ وَإِقَامَتَهُ لَهَا وَلَا يَشْهَدُ مَا أَمَرَ بِهِ وَمَا نَهَى عَنْهُ وَمَا الَّذِي يُحِبُّهُ اللَّهُ مِنْهُ وَيَرْضَاهُ وَمَا الَّذِي يَكْرَهُهُ مِنْهُ وَيَسْخَطُهُ. وَلِهَذَا يَكْثُرُ فِي هَؤُلَاءِ مَنْ لَهُ كَشْف وَتَأْثِير وَخَرْقُ عَادَةٍ مَعَ انْحِلَالٍ عَنْ بَعْضِ الشَّرِيعَةِ وَمُخَالَفَةٍ لِبَعْضِ الْأَمْرِ وَإِذَا أَوْغَلَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ دَخَلَ فِي الْإِبَاحِيَّةِ وَالِانْحِلَالِ وَرُبَّمَا صَعِدَ إلَى فَسَادِ التَّوْحِيدِ فَيَخْرُجُ إلَى الِاتِّحَادِ وَالْحُلُولِ الْمُقَيَّدِ كَمَا قَدْ وَقَعَ لِكَثِيرِ مِنْ الشُّيُوخِ وَيُوجَدُ فِي كَلَامِ صَاحِبِ مَنَازِلِ السَّائِرِينَ وَغَيْرِهِ مَا يُفْضِي إلَى ذَلِكَ. وَقَدْ يَدْخُلُ بَعْضُهُمْ فِي الِاتِّحَادِ الْمُطْلَقِ وَالْقَوْلِ بِوَحْدَةِ الْوُجُودِ فَيَعْتَقِدُ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْوُجُودُ الْمُطْلَقُ كَمَا يَقُولُ صَاحِبُ الْفُتُوحَاتِ الْمَكِّيَّةِ فِي أَوَّلِهَا:
الرَّبُّ حَقّ وَالْعَبْدُ حَقّ ** يَا لَيْتَ شِعْرِي مَنْ المكلف

إنْ قُلْت عَبْد فَذَاكَ ميت ** أَوْ قُلْت رَبّ أَنَّى يُكَلَّفْ

وَقِسْم ثَالِث مُعْرِضُونَ عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ وَعَنْ الاستعانة بِهِ جَمِيعًا. وَهُمْ فَرِيقَانِ: أَهْلُ دُنْيَا وَأَهْلُ دِينٍ فَأَهْلُ الدِّينِ مِنْهُمْ هُمْ أَهْلُ الدِّينِ الْفَاسِدِ الَّذِينَ يَعْبُدُونَ غَيْرَ اللَّهِ وَيَسْتَعِينُونَ غَيْرَ اللَّهِ بِظَنِّهِمْ وَهَوَاهُمْ: {إنْ يَتَّبِعُونَ إلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} وَأَهْلُ الدُّنْيَا مِنْهُمْ الَّذِينَ يَطْلُبُونَ مَا يَشْتَهُونَهُ مِنْ الْعَاجِلَةِ بِمَا يَعْتَقِدُونَهُ مِنْ الْأَسْبَابِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ يَجِبُ التَّفْرِيقُ بَيْنَ مَنْ قَدْ يُعْرِضُ عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ وَالاستعانة بِهِ وَبَيْنَ مَنْ يَعْبُدُ غَيْرَهُ وَيَسْتَعِينُ بِسِوَاهُ.